نبذة من حياة بحار 2

نبذة من حياة بحار  2

بقلم  : حسام الزغبى

فى شهر سبتمبر 2007 كنا بميناء بور سودان الذى يقع على البحر الأحمر التابع لدولة السودان وهو من أقدم الموانئ التى انشأها الانجليز وما ذالت السكة الحديد بالميناء منذ هذا الزمن السحيق زمن سرقة ثروات أفريقيا لصالح صاحبة الجلالة ويتمتع اهل بور سودان بنوع من الطيبة ويشتهرون بالصيد والتجارة كما تتصف ضواحي بور سودان بالفقر الشديد ويوجد حديقة واحدة بالمدينة اسمها ( لونا بارك ) وهى ملجأ العاشقين حيث يجلس كل عشيق مع معشوقته على مسافة لا تقل عن متر بل تزيد ويتبادلون الغزل وكلمات الشعر وكثيرا ما كان ينتابني الفضول فى التعرف على هذا المجتمع فأدخل الحديقة واتخذ مكانا متطرفا عنهم واتفقد كيف يضحكون وكيف يتمازحون وكيف يتغازلون دون أن يشعر أحد بى حتى لا أفسد سعادتهم البسيطة هذه وأثناء خروجى للذهاب إلى أحد الفنادق حيث لا يوجد غير اثنان من الفنادق التى يمكن أن اجلس فيهما وهما الهيلتون وفندق اخر أربعة نجوم وباقى البلد لا تليق بأن تجلس فى اى مقهى فيها حيث أن كل شئ فيها ما زال متأخرا وليس به غير بصيص ضوء وهو جامعة البحر الأحمر .. وعند خروجى أوقفنى صوت ينادي ( يا زول ) ومعناها يا رجل .. فنظرت خلفى فإذا بعشيق ومعشوقته فقلت له هل تقصدنى فقال نعم تفضل يا اخى اتونس معانا فقلت له هذا غير لائق فى مثل حالكم لا يجب أن يخالطكم احد حيث أن المسافة بينكم حوالى متر اعتقد انكما فى قمة العشق وانا اقول هذا على سبيل المزح لكنه قال لى نعم هى خطيبتي فنحن عندما نخطب لا يرى الخطيب خطيبته الا يوم الزفاف ولذلك فهم يسترقون الأوقات التى يتقابلون فيها دون علم الاهل فلا تجد فى هذه الحديقة الا العاشقين والأسر التى تريد أن تأخذ أولادها ليلعبون ويمرحون ولا يوجد أحد بمفرده غيرى .. استكشف هذا العالم من بعد لكن هذا الزول اعطانى الفرصة كى اتعرف عليهم عن قرب وعن عاداتهم وتقاليدهم لكننى تعجبت لماذا ناداني انا تحديدا فأجابنى أنك لا يبدو عليك انك من اهل السودان ولابد انك بحار ونحن نتشوق للتعرف على أحد البحارا فضبطت نظارتي السوداء وعدلت من ياقتى وتحدثت معه بلغة اعالى البحار التى يغالبها الاحساس بالفخر والعظمة وتبسمت ابتسامة خفيفة وجالستهم حوالى عشر دقائق وكانت مجالستهم لطيفة لكن الجو كان حارا جدا ولست بمن يمكنهم المكوث طويلا فى هذه الحرارة.. فاستأذنت منهم ودخلت الهيلتون فوجدت عالم آخر من الغرباء وأصحاب الشركات الأجنبية وأصحاب التوكيلات والشركات الملاحية فهم عالم لا يمت للعالم الخارجي بأى صلة ومجتمع منعزل ومنفصل تماما عن باقى المدينة شربت بعض الشراب البارد واستمعت لبعض الموسيقى وبينما انا جالس بمفردى إذ جائت إحدى الفتيات ذات بشرة بيضاء وشقراء وتتحدث باللهجة السودانية ورحبت بى وقالت لى اكيد انت جديد هنا فقلت لها لماذا فقالت لأنها تأتى كثيرا حيث انها تعمل بإحدى الشركات التى تعمل مع شركة اجنبية لبناء ميناء ركاب فى الجهة الأخرة من ميناء بور سودان اسمه ميناء سواكن ولم ترانى من قبل فقلت لها نعم جديد هنا وسألتني اذا كانت يمكنها الجلوس على نفس الطاولة فأذنت لها وكان الفضول يأكلنى كيف لهذه الفتاة الشقراء الجميلة أن تجيد اللهجة السودانية بكل هذه المهارة فعجبت لإجابتها حيث انها سودانية اساسا ابا عن جد فقلت كيف هذا انا لما أرى هذا الا فى بعض الدول الأفريقية مثل ناميبيا وجنوب أفريقيا فقالت ونحن كذلك لسنا من أصول سودانية وان جدها الأكبر كان قد جاء مع الاحتلال الإنجليزى ولا نتزوج من خارجنا لذلك حافظنا على بشرتنا البيضاء المميزة وكنت قد ضايفتها بكوب من العصير البارد وأثناء المحادثة حدثنى على الهاتف أحد أفراد طاقم السفينة واخبرني بأننا سوف نبحر بعد اربع ساعات ويتوجب عليا التواجد على سطح الباخرة قبل السفر بساعتين على الاقل .. فحاسبت على الشراب وخرجت متجها الى الباخرة رغم انه كان يمكنني المكوث ساعتين اخريين حيث اننى لم أكن اعرف لماذا اختارتنى انا تحديدا لتجالسنى وقد استحيت أن اسألها خاصة انها ليست من الفتيات الساقطات لكننى فضلت الذهاب على أن اسألها واعتذرت منها وذهبت إلى الباخرة وقد ابحرنا متجهين إلى ميناء العقبة بالأردن وأثناء مرورنا بخليج العقبة ليلا كان هناك أحد المراكب الغارقة ولم يكن هناك تحديث على الخريطة وكنت فى غرفة المحركات وفوجئت بصوت اصطدام قوى جدا ودخول المياه لغرقة المحركات وحدثت حالة من الذعر وصاح الجميع المركب بتغرق وصعد الجميع إلى السطح وعندما هممت بالصعود انا ايضا تذكرت نصيحة أحد اساتذتى بأن المركب هى المكان الآمن إلى أن تغرق تماما فعدت بسرعة وقمت بتشغيل أحد المضخات لسحب المياه من داخل إلى خارج السفينة حتى يأتينا الدعم ربما أطيل من عمرها قليلا وتركت المضخة على هذا الحال وكنا بجانب شرم الشيخ فى خليج العقبة وقريبين من البر وقمنا بإبلاغ السلطات المصرية المختصة وإبلاغ الشركة حيث أن المحركات أيضا قد توقفت ولا يعمل الا مولدات الكهرباء التى من خلالها تعمل المضخات حيث انها كانت بطايق أعلى فى غرفة الماكينات ثم انهالت علي الاتصالات من الشركة لان الجميع رفض النزول لغرفة المحركات فطلبت من الشركة أن يسرعوا بإحضار مضخات ذات سعة اكبر وان يحضروا قاطرة لأخذنا إلى أقرب ميناء وحاولت الشركة فعل ما بوسعها ولكن الروتين الحكومى قد كان فى أسوأ صورة وكانت السفينة كلعبة صغيرة وسط محيط يأخذها الموج والريح يسارا مرة ويمينا مرة فنصطدم بالشعب المرجانية تارة وتارة أخرى بالمركب الغارق ومكثنا على هذا الحال من الساعة السابعة مساء إلى الساعة الثانية ظهر اليوم الثانى حتى أصبح ميل السفينة 18 درجة وكان لابد من تركها وبالفعل قفزنا إلى المياه واحدا تلو الاخر فلم يهتم بنا اى أحد وأصحاب الشركة يصرخون ولكن يظل الروتين سيد الموقف حتى انتهت الإجراءات لكننا كنا قد وصلنا إلى الشاطئ سباحة ونظرنا إلى السفينة بحرقة وانتظار لحظة الغرق وكنت قد تركت المضخات تعمل لعل وعسى ولكن المياه التى تدخل السفينة اكثر من المياه التى تسحبها المضخات وبالتالي فأنا أطيل من عمرها فقط لا أكثر وكنت قد وضعت هاتفى ببعض الأكياس البلاستيكية حتى لا يتأثر بالمياه أثناء السباحة إلى الشاطئ وبعد وصولنا الشاطئ وابصارنا شاخصة اهتز هاتفى فأخرجته واجبت محدثى فقال لى انه من القوات البحرية ويتمنى عودتى إلى الباخرة حيث أن الشركة قد أرسلت لنا أحد أبنائها ولم يكن معه رقما مصريا يحدثني منه فطلب من هذا الضابط أن يحدثني لكنى كنت فى قمة الغضب والثورة من هذا الروتين العقيم فقلت له لا تحدثتى مرة أخرى واغلقت الهاتف فى وجهه ولكن جائنى مكالمة أخرى من صاحب الشركة نفسها وقال لى ان الحق كل الحق معك ولكن ليس بيدنا شئ واخبرني انهم قد جلبوا معهم كل ما طلبته منهم بالإضافة إلى فريق دعم سوف يكون معى ولكن فى نفس الوقت السفينة لن تمكث الا نصف ساعة على الاكثر وتغوص فى أعماق البحر وكان أمرا محيرا وتحد ربما يفقدني حياتى لكننى قررت التحدى فاخبرتهم أن يأتونى بقارب مطاطي بسرعة ومركب صغير يكون بجانبنا وفورا خلال خمس دقائق كان القارب قد وصلنى لارجع به إلى السفينة وكل من معى يقولون لى دعها تغرق فلم يعرنا أحد اى اهتمام لكنى لم أستطع واحسست بأن اخلاق البحر تمنعنى من الهروب والتخلى عن واجبى لآخر لحظة وبالفعل رجعت الباخرة ووضعنا المضخات الجديدة بأماكن متعددة حتى أصبح الماء الذى نسحبه اكثر من كمية المياه التى تدخل الباخرة وكلما مر الوقت تحسن الوضع وأخذت الباخرة فى الاعتدال حتى وصلنا ميناء سفاجا البحرى وكانت درجة ميل السفينة ثلاث درجات فقط وتجمع الجميع حولى حيث أن كل فريق الدعم الذى احضرته الشركة كان معى على الباخرة بينما رفض جميع الطاقم العودة الا اثنين كانوا قد مكثا معنا واخذوا جميعهم يرفعونى عاليا ويتلقونى على اياديهم ويصرخون صراخ المنتصرون .. وكان احساس لا يوصف بالسعادة وان الباخرة ما ذالت على قيد الحياة ولم يكتب فى تاريخى المهنى ان سفينة غرقت وانا أحد افرادها وما ذلت على قيد الحياة .. ولم أقم بواجبى كما يجب .

لا تعليقات بعد على “نبذة من حياة بحار 2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *