فقضية أوكرانيا تنفتح على صراعات ثنائية ومتعددة الأطراف، وهو ما يعطي للصراع الراهن في أوكرانيا مساحات كبيرة من التعامل، والمناورة والشروط الرئيسية والجوهرية التي تطالب بها روسيا، وتتمسك بها في ظل استمرار إقدامها على تكثيف العمل العسكري وامتداده وعمله في اتجاهات متعددة تركز على الحل العسكري بعد أن وصلت روسيا إلي العمق الأوكراني، وقلصت مساحات كبيرة من الأراضي الأوكرانية، وانتقلت لتأمين ما يعرف بالفضاء الروسي بصورة شبه كاملة، وباتت المناطق المحررة وفق المفهوم الروسي محررة ما يتطلب التعامل معها مثلما تم في إطار شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا من قبل، الأمر الذي سيدفع روسيا لاستمرار المواجهة ليس فقط داخل روسيا ومناطق التماس الاستراتيجي، وإنما في مسارح العمليات المجاورة.
روسيا لن تسقط الخيار العسكري، بل وربما تناور في الدخول في بعض مناطق «الناتو»، إذا استمر التهديد الغربي بالوصول إلي العمق الروسي، مثلما يحاول «الناتو» أن يفعل متجاوزاً خيارات صعبة في استهداف الأراضي الروسية، ما يعني دخول الحلف في مواجهة غير مأمونة مع روسيا.
ومع الرئيس ترامب سيكون الأمر صعباً في ظل رفضه للخيار العسكري، ومسعاه إلى وقف العمليات العسكرية، ملوحاً بضرورة أن تدفع دول «الناتو» ثمن الدفاع عنها، ما يؤكد أن «الناتو» مع ولاية ترامب سيغير من أولوياته الأمنية والاستراتيجية خاصة من قبل دول مثل فرنسا، أو ألمانيا ما يؤكد أن الأولوية الراهنة للرئيس ترامب، تكمن في حسم ما يجري واكتفاء دول «الناتو» بما تم، وربما ستتوقف إمدادات السلاح وإقرار المخصصات.
وفي غزة سيكون الأمر مختلفاً، فالإدارة الأميركية عازمة على العمل على إنهاء المواجهات، وإقرار الهدنة والتهدئة بصورة كاملة، ما يعني أن الترتيبات الأمنية المقبلة سيكون لها الأولويات وليس فقط وقف إطلاق النار.. وفي ظل رهانات أميركية على أن دعم إسرائيل وأمنها سيتطلب استمرار الضغط على بعض الأطراف الداعمة، والتي سيكون تعامل الإدارة الأميركية مع سلوكها وفق أولويات أمنية حقيقية، وتجاوز الحسابات الراهنة المتعلقة ببرنامجها النووي مع الجانب الإيراني، وهو ما تتفهمه الولايات المتحدة بالفعل، وستعمل على إقراره خاصة وأن أي تجدد للصراع سيكلف الجانب الإيراني الكثير.. وقد يدفع لمواجهة إيرانية إسرائيلية، الأمر الذي قد يتفهم أبعاده الرئيس ترامب بل، وقد يسعى للتعامل الجاد والمباشر مع الأولويات الأمنية لإسرائيل، بل وقد يذهب إلى شراكتها العسكرية، وهو أمر غير مستبعد فيما سيجري من مخططات إسرائيلية لإعادة ترسيم المنطقة، انطلاقاً من الضفة وقطاع غزة، ومروراً بسوريا إلى سائر دول الإقليم، ما يمكن أن يؤكد أن إسرائيل مع إدارة ترامب ستعمل في مساحات متعددة ومهمة، ووفق منظومة تحركاتها الأمنية والعسكرية.
ستكون الأولويات الراهنة لإدارة الرئيس ترامب العمل في مناطق النزاعات وفق استراتيجية منضبطة تقر المصالح الأميركية في مناطق الصراعات في العالم، وهو أمر طبيعي ومهم في إطار ما تواجهه الولايات المتحدة من تحديات حقيقية لإقرار إستراتيجية الولايات المتحدة على المستوي الفيدرالي، وبحثا عن إستراتيجية خاصة توفر للأمن القومي كل متطلباته. في المجمل فإن المقارنة بين الأزمتين: أوكرانيا وغزة، ستتطلب تدخلاً أميركياً عاجلاً لإقرار الحسابات العاجلة مع التأكيد على أن إدارة ترامب لن تتوقف كثيرا عن التفاصيل المتعلقة بإقرار الترتيبات الأمنية أو الدخول في مفاوضات أو التحرك وفق استراتيجية، ممتدة فهذا الأمر لن يكون وارداً بالفعل في الفترة المقبلة بل ستدخل الإدارة الأميركية على عجل عبر استراتيجية فرض الحل وعدم إطالة أمد التعامل حيث سيتحرك الرئيس ترامب وفق معادلة المكسب والخسارة والنفقة والتكلفة والعائد.
الإدارة الأميركية ستضع في تقديراتها أن مواجهة أزمتي غزة وأوكرانيا ستحكمها المصالح الكبرى للأمة الأميركية ما يتطلب بالفعل خيارات الحسم أولاً، والانتقال تدريجياً إلى التعامل مع الأزمات الأخرى في العالم ومنها أزمة تايوان مع الصين، وما يجري في شبه الجزيرة الكورية، واحتمالات امتداد الصراعات إلى النطاقات الاستراتيجية للولايات المتحدة، ما يتطلب سرعة تحرك، والانتقال من الانخراط التدريجي للانتقال العاجل في التعامل، الأمر الذي قد يدفع باستراتيجية مختلفة مع الرئيس ترامب ومسعاه لعدم الدخول في التفاصيل والتعامل وفق مقاربة عاجلة.
لن تكون إدارة الرئيس ترامب إدارة رد الفعل بل ستكون إدارة مبادرة وستتبنى خيارات محددة منضبطة ما قد يدخل الإدارة، وبصورة مبكرة في صدامات وتشابكات دبلوماسية وفق معادلة رابح/ خاسر، وهو ما قد يعتمده الرئيس ترامب في تعامله مع أزمتي أوكرانيا وغزة، بل وأيضاً مع أي أزمة أخرى، قد تندلع وأخطرها عودة موجة جديدة من الإرهاب